لقد اعتبرت الشريعة الإسلامية الأسرة لبنة المجتمع، وجعلت الزواج السبيل الوحيد إلى بنائها، كما جعلت الزواج الطريق الوحيد لتلبية الرغبات الجنسية، وما دون ذلك فهو زنا، ولم تكتف الشريعة الإسلامية بهذا الحد بل منعت الزواج بين الأشخاص الذين تربط بينهم علاقة قرابة سواء كانت قرابة دموية أو كانت قرابة مصاهرة أو رضاع [1]...
وعليه فإن أية علاقة جنسية خارج الإطار الشرعي الذي رسمه الإسلام لها تعتبر زنا وتلقى استهجانا داخل المجتمع ومنتهى التفاحش في هذه الجريمة أن ترتكب بين المحارم، لأن الزنا بالمحارم بالإضافة إلى الأضرار الأخرى التي يشترك فيها مع باقي الجرائم الجنسية مع غير المحارم، فإنه يؤدي إلى تدمير الأسرة وتشتيت أواصر الرحمة أفراد الأسرة [2].
وإذا ثبت بأن لزنا المحارم خطورة كبيرة على الفرد، الأسرة والمجتمع أتساءل عن موقف القانون الجنائي المغربي من هذه الجريمة؟ بمعنى هل أخذ المشرع بعين الاعتبار أهمية علاقات الحرمة بين الأفراد كمنطلق في التجريم والعقاب على جرائم العرص؟ وهل أخذ المشرع بعين الاعتبار وضعية الطفل الذي يسهل جعله ضحية هذه الجريمة نظرا لضعف إدراكه من جهة وللثقة التي يضعها الطفل في أفراد أسرته من جهة ثانية؟
بالرجوع إلى القانون الجنائي المغربي نجده لا يتحدث عن جريمة إسمها زنا المحارم، كل ما هنالك أنه اعتبر من خلال بعض النصوص صفة "أصل الطفل الضحية" ظرفا من ظروف التشديد في بعض الجرائم الواقعة على القاصر، كما هو الشأن بالنسبة لجرائم هتك العرض والاغتصاب...
وحقيقة أن تشديد المشرع المغربي لعقوبة الجاني باعتباره أصلا للضحية في هذه الجرائم، لم يهدف من ورائه حماية أواصر القرابة وحماية العلاقات الخاصة التي تربط بين أفراد الأسرة والتي قد تسبب الصلات الجنسية بين أفرادها إلى انهيارها وإنما كان الهدف من هذا التشدد هو زجر الاعتداءات الجنسية ضد الأطفال [3] من قبل أصولهم حماية للطفل نظرا لضعفه البدني والنفسي من جهة –كما سبقت الإشارة إلى ذلك- ولإخلالهم بالثقة التي وضعت فيهم اتجاه الطفل من جهة ثانية.
وما يؤكد صحة هذا القول هو أن المشرع لم يأخذ بعين الاعتبار علاقة القرابة [4] بين الجناة في جريمة الفساد حيث ينص الفصل 490 ق.ج " بأن كل علاقة جنسية بين رجل وامرأة لا تربط بينهما علاقة الزوجية تكون جريمة الفساد ويعاقب عليها بالحبس من شهر واحد إلى سنة.." ولم تتم الإشارة في أي مقتضى تابع لهذا الفصل إلى تشديد عقوبة الجناة إذا كانت تربطهم علاقة قرابة، الأمر الذي يظهر بشكل واضح غياب حماية أواصر القرابة في القانون الجنائي المغربي من جريمة فضيعة تستهجنها الأخلاق.
ولسد هذه الثغرات، فإنه على المشرع المغربي أن يضع نصا خاصا يجرم الصلات الجنسية بين الأقارب وأن يضع تسمية خاصة لهذه الجريمة، لذلك فإنه في تقديري يجب التوسع في مدلول الفعل الذي يقوم به زنا المحارم على نحو يحقق العلة من العقاب عليه، ومن ناحية أخرى، فإذا كانت علة التجريم هي حماية التناسل والوقاية من الأمراض الوراثية، فإن ذلك لن يتحقق ما دام نطاق القرابة محصور جدا لا يتجاوز أصول الطفل، لذا يجب على المشرع أن يجرم كل العلاقات المحرمية في هذه الجريمة وأن يحدد بدقة من هم المحارم، لأن نصوص القانون الجنائي يجب أن تكون محددة بدقة ولا يكفي تحديد لفظ عام مثل كون الشريك في الصلة الجنسية محرما بل يجب أن يتكفل التشريع ببيان حدود هذه الصلة المحرمية ونطاقها بوضوح، كما يجب على المشرع أن يفرد لهذه الجريمة عقوبات رادعة [5] بالنظر إلى جسامة الأخطار المترتبة عنها سواء بالنسبة للفرد الأسرة أو المجتمع.
كما يجب على المشرع المغربي أن يضع نصب عينيه قدسية أواصر القرابة التي يجب حمايتها من كل ما من شأنه أن يؤدي إلى زعزعتها وألا يحدو حدو بعض التشريعات النفعية التي حرمت العلاقات الجنسية بين المحارم ليس لقدسية أواصر القرابة وإنما لحماية أطراف ضعيفة فقط كالأطفال أو في حالة استعمال العنف أو الإكراه، أما إذا وقع الاتصال بين شخصين بالغين برضاهما، فإنه لا عقاب في هذه الحالة ما دام الاتصال خال من أي إكراه أو عنف وهذا ما أكدته لجنة مراجعة القانون الجنائي في الولايات المتحدة الأمريكية قائلة، "بأن القانون الجنائي يجب أن يقتصر على تحقيق أهدافه فحسب وان يبحث عن الوسائل الفعالة لتحقيقها وأن الصلات والأفعال الجنسية مهما كانت طبيعتها والتي تقع بالرضاء بين بالغين ليست محلا لتدخل القانون الجنائي مهما كانت أفعالا بغيضة أو مثيرة للاستهجان الأخلاقي وتشكل خطيئة أخلاقية وذلك ما لم ترتكب علنا وأن زنا المحارم بين الأخ وشقيقته البالغين بالرضا يجب أن يخرج من حيز التجريم، وأنه لا يوجد سبب جدير بالاعتبار يدعو إلى تدخل القانون في مثل هذه العلاقات فضلا عن نذرتها، فإنه لا تأثير لها على البنيان الأخلاقي للمجتمع ولا تنطوي على تهديد لنظام الأسرة أو إحداث ضرر بالغير ولا تتضمن كذلك أي عنصر من عناصر الاستغلال، بين طرفيها" وعلى عكس ما انتهت إليه اللجنة من إباحة زنا المحارم بين الأب وابنته فتقول: "إن غالبية أعضاء اللجنة شعر أن زنا المحارم الواقع بين الأب وابنته يتعين أن يبقى في نطاق التحريم والسبب في ذلك هو غلبة الاعتبار الأخلاقي على الاعتبار القانوني والعملي للغريزة وعللت اللجنة هذه التفرقة "بأن الابنة المجني عليها سيصيبها ضرر معنوي محتمل من فعل الأب، وأن هذا الفعل ينطوي على معنى الإفساد والاستغلال وأن المجني عليه تكون في سن تجعلها عرضة للتأثر وأن الأب يكون لديه السلطة في الأسرة [6].
ولاشك بأنه حتى من منظور التشريعات النفعية التي تحمي الممارسات الجنسية غير المشروعة، فإن زنا المحارم يجد سنده من التجريم لأنه يضر بمصالح العائلة ومن ثم فإنه يلحق بها أضرار بليغة كما يمس المجتمع بدوره بالإضافة إلى إضراره بالنسل وتسببه في العديد من الأمراض الوراثية، كما أنه ينطوي على استغلال جنسي لصغار السن، ولذلك نصت كثير من القوانين التي تبنت النفعية في تشريعاتها على تجريمه فجعلته بذلك استثناء من مبدأ الحرية الجنسية.
وفي هذا الصدد يمكن القول بأنه لا يوجد أي تبرير علمي يمكن أن يستند عليه المشرع المغربي لعدم عقابه على زنا المحارم، فإذا كانت العديد من القوانين الغربية التي تأخذ بمبدأ الحرية الجنسية كأصل لها في مجال العرض قد جرمته وعاقبت عليه كالقانون الأنجليزي [7] والقانون الألماني [8] والسويسري. فهل يكون المشرع المغربي إذن قد تبنى مبدأ الحرية الجنسية على نحو يفوق ما أخذت به هذه القوانين؟ أم انه لم ير في زنا المحارم فعلا يستوجب العقاب؟ وإذا كان المشرع المغربي قد جرم كثيرا من الأفعال غير المتصلة بالعرض وهي بمعيار الضرر الاجتماعي تقل كثيرا في أهميتها عن زنا المحارم، فهل رأى الشارع المغربي أن الضرر الناجم عن زنا المحارم لا يستهل عقابا؟
لذا يجب على المشرع المغربي أن يتدخل في أقرب الأوقات لتدارك هذه الثغرة ولإقرار حماية خاصة للطفل من الاعتداءات الجنسية المدمرة التي قد يتعرض لها داخل محيطه الأسري خاصة وأن الواقع يعكس في بعض الحالات تردي العلاقات الأسرية بسبب انتشار بعض أشكال الإساءة الجنسية للأطفال داخل المحيط الأسري، فحسب الإحصائيات الصادرة عن المرصد الوطني لحقوق الطفل، فإن 204 من بين 491 . 013 طفل معنف تعرضوا للاستغلال الجنسي من طرف أشخاص كبار من بينهم أقرباؤهم في الفترة الممتدة بين دجنبر 2000 وشتنبر 2003 [1] .
--------------------------------------------------------------------------------
]1] - تعتبر القرابة مانعا من موانع الزواج وذلك لأن الإسلام أمر بالإحسان إلى الأقارب واحترامهم، وقد ينشأ عن المعاشرة الزوجية خصومات وخلافات تؤدي إلى الكراهية والتباغض وقد تنتهي بالفراق والانفصال الشيء الذي يتنافى مع الإحسان المذكور ووجوب صلة الأرحام ثم إن عوامل الوراثة تجعل النسل المتولد من الزوجين اللذين بينهما قرابة، نسلا ضعيفا فيه استعداد لإصابة بالأمراض التي أصيب بها سلفه ويشتد هذا الاستعداد كلما اشتدت القرابة بين الزوجين وتخف كلما بعدت.
انظر: محمد بن معجوز المزغراني، مرجع سابق، ج 1، ص:56.
[2] - حيث إن من المقاصد الأساسية لصيانة العرض في الشريعة الإسلامية صيانة العائلة التي هي نواة المجتمع وأساسه، فلا يقام المجتمع إلا بقيام أسر قوية متماسكة تحسن أداء دورها الاجتماعي وتهدف الشريعة الإسلامية بذلك إلى رعاية الفرد الذي هو مقصود التشريع وأساسه منذ نشأته وتطور حياته في أطوارها المختلفة وتهيئة المجال أمامه في بيئة اجتماعية صالحة تكفل للطفل حسن الخلق ليكون نواة طيبة للمجتمع بأسره.
[3] - كذلك الشأن بالنسبة للقانون المصري الذي لا يفرق بدوره في الجزاء الذي يوقع على من يزني بإحدى محارمه وبين الجزاء الذي يوقع على من يزني بغير محارمه، إلا في الأحوال التي يكون فيها الجاني من أصول المجني عليها أو من المتولين تربيتها حيث تكون العقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة شريطة أن يكون سن الضحية دون الثامنة عشرة، أما إذا كانت قد بلغت سن 18، فما فوق، وتم الاتصال الجنسي برضاها، فلا عقاب على الجاني بالعقوبة المشددة.
[4] - أنماط القرابة في زنا المحارم هي:
الأخ وأخته – الإبن وأمه – الأب وابنته – ابن الأخت وخالته – ابن الأخ وعمته – زوج الأم وابنة زوجته – زوج البنت وحماته – ابن الأخ وزوجة عمه – الأخ وزوجة أخيه – الابن وزوجة الأب – الخال وابنة أخته –العم وابنة أخيه –زوج الأخت وأخت زوجته – الأب وزوجة ابنه – ابن الأخت وزوجة خاله – الزوج وابنة أخت زوجته – العم وزوجة ابن أخيه – الخال وزوجة ابن أخته.
[5] - بالنسبة لعقوبة جريمة الزنا بالمحارم في الشريعة الإسلامية، فقد انقسم الفقهاء إلى فريقين بشأنها:
الفريق الأول: يرى بأن عقوبة الزنا في مثل هذه الأحوال هي نفسها عقوبة الزنا عموما أي الرحم للمحصن والجلد لغير المحصن ويمثل هذا التوجه الرأي الراجح في الفقه الإسلامي ويقول به الإمام مالك وأبا حنيفة والإمام الشافعي.
الفريق الثاني: يرى بأن عقوبة من يزني بإحدى محارمه تختلف عن عقوبة الزنا عموما فهي القتل سواء كان الزاني محصنا أم غير محصن، ويضيف البعض إلى هذه العقوبة مصادرة مال الجاني كله، بينما يقصر البعض الآخر المصادرة على خمس مال الجاني فقط، ولكل فريق دليله الذي يستند إليه فبالنسبة للفريق الذي يرى أن من زنا بإحدى محارمه يقتل في جميع الأحوال فهم الشيعـة= =الإثنى عشرية، حيث يقول الفقيه الطوسي: أن الزناة على خمسة أقسام: فقسم منهم يجب عليه الحد بالقتل في كل حال سواء كان محصنا أو غير محصن حرا كان أو عبدا مسلما كان أو كافرا شيخا أو شابا، وعلى كل حال فهو كل من وطئ ذات محرم أما أو بنتا أو بنتها أو بنت أخيه أو عمته أو خالته فإنه يجب عليه القتل على كل حال، ودليلهم في ذلك ما رواه الإمام أحمد بن حنبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من أتى ذات محرم منه فقد ارتد عن دينه فيقتل ويصير ماله فيئا لبيت المال". أنظر: أحمد المجدوب، مرجع سابق، ص:306 وما بعدها.
[6] - أشرف توفيق "الحماية الجنائية للحق في صيانة العرض في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي" رسالة لنيل دكتوراه الدولة في الحقوق، القاهرة 1994، ص:123.
[7] - تم تحريم الزنا بالمحارم في القانون الإنجليزي بصدور القانون الجنائي لسنة 1908 والذي لم يقتصر على بريطانيا، بل امتد إلى أغلبية الدول التي كانت تابعة لها فأصبحت تحرم العلاقات الجنسية التي تحدث بين الأقارب المقربين مثل الأب وابنته والأم وابنها والأخ وأخته.
ففيما يتعلق بالعقوبات التي توقع على الجاني، فإن القانون الإنجليزي يجعل الحد الأقصى للعقوبة التي توقع على من يحاول إجراء اتصال جنسي بإحدى محارمه الحبس سنتين، أما إذا كانت الفتاة التي جرت معها المحاولة دون الثالثة عشرة من عمرها، فإن الحد الأقصى للعقوبة التي توقع على من يحاول ذلك هو السجن سبع سنوات، وفي تعديل سنة 1956 أصبح القانون الجنائي البريطاني يعاقب كل أنثى جاوزت السادسة عشرة من عمرها وسمحت لرجل من محارمها بإجراء اتصال جنسي معها وفضلا عما تقدم، فإن هذا القانون ينص في القسم الثامن والثلاثين منه على انه إذا أدين الرجل في جريمة الزنا بالمحارم مع بنت سنها دون الواحد والعشرين (أو أدين بمحاولة ارتكاب الجريمة) فإن المحكمة تحكم بتجريده من كل سلطاته أو ولايته عليها.
[8] - تنص المادة 173 من قانون العقوبات الألماني على أن:
أ- كل من ارتكب فعل مع أحد أصوله الصليبيين على عمود النسب وإن علوا يعاقب بالحبس حتى ثلاث سنوات أو بالغرامة.
ب- كل من ارتكب فعل الوطء مع أحد أصوله الصليبيين على عمود النسب وغن علوا يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن السنتين أو بالغرامة وتسري هذه الأحكام ولو انقضت صلة القرابة، كما تسري هذه القواعد أيضا على أفعال الوطء المرتكبة بين الإخوة الأشقاء على أحدهما الآخر.
ج- لا تسري الأحكام السابقة على الفروع والإخوة الذين لم يبلغوا بعد الثامنة عشرة وقت الفعل.